السنغال وروسيا- توازن دقيق وشراكة استراتيجية في عالم متغير

تسعى السنغال جاهدة لتعزيز وتوطيد علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا، في ظل سعي الأخيرة لتحقيق طموحاتها الجيوسياسية المتمحورة حول مواجهة التأثير الغربي المتنامي في المنطقة. وفي هذا الإطار، قامت وزيرة التكامل الأفريقي والشؤون الخارجية السنغالية بزيارة رسمية إلى العاصمة الروسية موسكو في شهر أغسطس/آب من عام 2024. وتجدر الإشارة إلى أن عمدة مدينة اتياس السنغالية قد تلقى دعمًا ماليًا سخيًا من حاكم سيفاستوبول الروسي، وذلك عقب زيارته المثمرة إلى روسيا في شهر يوليو/تموز من العام نفسه. يأتي هذا التقارب في وقت تواجه فيه روسيا عزلة دبلوماسية متزايدة من قبل الدول الغربية، بينما تسعى السنغال في الوقت ذاته إلى إعادة ترتيب أولوياتها الدبلوماسية لتعزيز علاقاتها مع الدول التي تتخذ موقفًا معارضًا لروسيا.
تهدف هذه المقالة إلى استعراض الآليات التي تعتمدها السياسة الخارجية السنغالية لتحقيق التوازن الدقيق في علاقاتها مع الدول التي تعارض سياسات النفوذ الروسي في منطقة غرب أفريقيا. كما تتناول المقالة التحديات الراهنة التي تواجهها السنغال، وتسلط الضوء على قدرة السنغال على الحفاظ على صمودها الدبلوماسي في خضم الأزمة المتفاقمة بين مالي وأوكرانيا من جهة، وبين دول "آيس" و"إيكواس" من جهة أخرى. وتثير المقالة تساؤلات حول ما إذا كانت السنغال ستتبنى خيار التقارب الروسي السنغالي كاستراتيجية لتحقيق التكامل الأفريقي والدولي، وذلك من خلال تعزيز الوجود الروسي في المنطقة.
العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والسنغال
تتمتع السنغال بعلاقات دبلوماسية راسخة وقديمة مع روسيا، ويتجسد عمق هذه العلاقات في اللقاءات الدورية رفيعة المستوى بين البلدين. ومن أبرز هذه اللقاءات اجتماع الرئيس بوتين مع الرئيس السنغالي السابق في عام 2023، حيث أكد الرئيس الروسي على الأهمية التي توليها روسيا للسنغال كشريك موثوق به في القارة الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك، اتخذت السنغال موقفًا محايدًا في الأمم المتحدة بشأن الصراع الروسي الأوكراني، واختارت الامتناع عن التصويت في مناسبتين متتاليتين لصالح روسيا، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تعاني من عزلة دبلوماسية خانقة.
وقد حافظت القيادة السنغالية الجديدة على هذه العلاقات الوطيدة، حيث استقبل رئيس الجمهورية باسيرو ديوماي فاي في شهر يوليو/تموز من عام 2024، ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص لرئيس روسيا الاتحادية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، حاملاً رسالة من الرئيس بوتين موجهة إلى نظيره السنغالي، تعرب عن رغبة روسيا في تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات. وتلا ذلك زيارة رسمية قامت بها وزيرة التكامل الأفريقي والشؤون الخارجية السنغالية، السيدة ياسين فال، إلى موسكو، حيث التقت بنظيرها الروسي سيرغي لافروف بتاريخ 29 أغسطس/آب 2024. وقد هدفت هذه الزيارة إلى تعزيز الشراكة القائمة والارتقاء بمستوى التعاون الاقتصادي بين البلدين إلى آفاق أرحب.
وفي الآونة الأخيرة، كثفت روسيا جهودها للانخراط الدبلوماسي مع السنغال، مما أثمر عن توقيع عمدة مدينة اتياس السنغالية، باباكار جوب، على اتفاقية شراكة مهمة مع حاكم سيفاستوبول الروسي. وقد أقام (جوب) في ولاية سيفاستوبول لمدة ثمانية أيام في شهر يوليو/تموز 2024، وذلك استجابة لدعوة رسمية من السلطات الروسية لتوقيع اتفاقية شراكة وتعاون بين المدينتين. وأكد (جوب) حصوله على تمويل سخي لمدينته بمبلغ يزيد عن مليار فرنك أفريقي. ومن المتوقع أن تصل بعثة روسية رفيعة المستوى إلى اتياس قبل نهاية عام 2024، وذلك للتحضير والإعداد لتنفيذ المشاريع التنموية المحددة. وتؤكد هذه المساعي الحثيثة والجهود المتواصلة على احتفاظ السنغال بعلاقاتها الدبلوماسية القوية والمتينة مع روسيا.
سياسة السنغال الخارجية وآليات التوازن
تقدم السياسة الخارجية السنغالية نماذج فريدة ومتميزة من التفاعلات الدبلوماسية، ولكن المواقف السياسية الحرجة التي تتخذها الدول تجاه نظيراتها تتطلب قدرًا كبيرًا من الفطنة السياسية والحكمة في التعامل معها. وتستدعي حالة روسيا في الوضع الإقليمي والدولي الراهن تفعيل آليات التوازن الدبلوماسي تجاه الدول التي تعارض سياسات نفوذها في أفريقيا، وذلك بالنظر إلى المخاطر المحتملة التي قد تنجم عن الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها الرجعي على علاقات السنغال مع القوى الغربية ودول الجوار، وعلى وجه الخصوص دولة مالي الصديقة.
وقد ظهرت بوادر الارتباك الدبلوماسي للسنغال حين أعلنت جمهورية مالي قرارها بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، متهمة كييف بممارسة "العدوان التمييزي" على أراضيها، وذلك على خلفية مقطع فيديو نشرته الممثلية الدبلوماسية الأوكرانية في السنغال. وقد أدى هذا الأمر إلى استدعاء السفير الأوكراني لدى السنغال إلى وزارة الخارجية السنغالية في شهر أغسطس/آب 2024.
وتولي السنغال أهمية قصوى لعلاقاتها مع مالي المجاورة، كما أنها ملتزمة بالحياد وعدم التدخل في الأزمة الأوكرانية الروسية. وتسعى السنغال جاهدة إلى تحقيق التوازن الدبلوماسي في ظل التوغل الروسي المتزايد في مالي، وذلك تجنبًا لأي تأثير سلبي على سياستها الخارجية مع أوكرانيا والدول الغربية. وتعاني السنغال من التعدي الدبلوماسي السلبي بين الدول الصديقة، مما يستلزم تفعيل آليات فعالة لتحقيق توازن السياسة الخارجية، ويمكن تلخيص هذه الآليات فيما يلي:
آلية الحوار:
يمكّن الحوار وزارة الخارجية السنغالية من تعزيز وتوطيد علاقاتها الدبلوماسية مع مختلف الأطراف. وقد ساهم حوار الخارجية السنغالية مع سفارة أوكرانيا في قضية مالي في إنقاذ السنغال من الانزلاق الدبلوماسي. ويلزم تفعيل هذه الآلية بكثافة في الوضع الروسي، لكي تتمكن السنغال من الحفاظ على مصالحها مع الدول التي تتخذ موقفًا معارضًا لروسيا.
آلية الحياد:
يشكل الحياد عنصرًا أساسيًا وركيزة جوهرية في دبلوماسية السنغال. ويتجلى ذلك بوضوح في امتناع السنغال عن التصويت في الأمم المتحدة على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان في 7 أبريل/نيسان 2022. ويسهم الحياد بشكل كبير في تقليل الأخطاء الدبلوماسية، بالإضافة إلى تحقيق التوازن المنشود في التعامل مع مختلف القضايا والملفات.
آلية تغليب المصلحة:
إن المصالح القوية والراسخة التي تربط السنغال بمختلف دول العالم تجعلها مضطرة في كثير من الأحيان إلى تغليب مصلحتها العليا في القضايا الدبلوماسية الشائكة، وذلك من منطلق الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وضمان الأمن والسلام في المنطقة.
آلية التصدّي للمخاطر:
تهدف موسكو إلى توسيع نفوذها الجيوسياسي لمواجهة النفوذ المتزايد للقوى الغربية في المنطقة. وفي هذه الحالة، يأتي التصدي للمخاطر كآلية فعالة في ترتيب الاتفاقيات الدبلوماسية بما يخدم مصلحة الدولة مع مختلف الشراكات الدولية القائمة.
التقارب الروسي السنغالي وتحديات المرحلة
تسعى روسيا جاهدة إلى التقرب من السنغال نظرًا لموقعها الاستراتيجي المتميز، والتنوع الاقتصادي الذي تتمتع به، بالإضافة إلى الدور الإقليمي والدولي الهام الذي تقوم به في إطار مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. ويمكن لروسيا أن تستفيد من هذه العوامل مجتمعة لإقامة تحالفات جديدة خارج مناطق نفوذها التقليدية. وفي المقابل، تستثمر السنغال ورقة استقرارها السياسي كمحاورة فاعلة لروسيا في سياق جيوسياسي عالمي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، مما يمكنها من تحقيق أهدافها الاستراتيجية المنشودة.
وفيما يلي أهمّ عناصر التقارب الروسي السنغالي:
أولًا: عنصر التعاون العسكري:
اكتسب التعاون العسكري بين روسيا والسنغال أهمية بالغة في الآونة الأخيرة، ويعتبر مدخلًا رئيسًا للتقارب المتنامي بين البلدين. ويمثل توقيع اتفاقية التعاون العسكري بين البلدين في عام 2018 خطوة حاسمة لتعزيز العلاقات الدفاعية وتطوير التعاون في هذا المجال الحيوي. وكان القرار السنغاليّ بتوقيع هذه الاتفاقية قرارًا استباقيًّا حكيمًا لما قد يحدث في المستقبل الجيوسياسي للمنطقة من احتدام الصراع والتنافس بين القوى الكبرى.
ثانيًا: عنصر التعاون الاقتصادي:
وجدت روسيا في السنغال موقعًا استراتيجيًا حيويًا للتأمين الاقتصاديّ في قطاعات مختلفة وهامة، الأمر الذي جعلها وجهة جذابة للاستثمارات الروسية المتنوعة. وفي هذا الصدد، تمّ افتتاح الغرفة التجارية والاستثمارية الأفريقية الروسية في السنغال في شهر يوليو/تموز 2024، وذلك بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين.
التحديات الإقليمية والدولية
- التحدي الدولي: أثار اهتمام روسيا المتزايد بالسنغال تساؤلات مشروعة حول الدوافع الحقيقية وراء هذه العلاقة الدبلوماسية المتنامية، والتي يمكن أن تكون لها تداعيات سلبية على المستوى الدولي في ظل العزلة الدبلوماسية التي تعيشها روسيا حاليًا.
- التحدي الإقليمي: قررت مالي تعميق شراكتها الاستراتيجية مع روسيا بعد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا، مما يشكل تحديًا دبلوماسيًا كبيرًا للسنغال في الحفاظ على علاقاتها المتوازنة مع كل من فرنسا ومالي وروسيا في آن واحد.
وفي الختام، يتضح جليًا أن التقارب الروسي السنغالي يعكس توازنًا دقيقًا في العلاقات الدولية، حيث تسعى السنغال جاهدة لتعزيز مكانتها ودورها المحوري من خلال تنويع شراكاتها، مع الحرص التام على استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي في ظل التحديات العالمية المتزايدة والمتجددة.